من أزواجكم و أولادكم عدو لكم !!!

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُواًّ لَّكُمْ فَاحْذَرُوَهُمْ

هذا النص القرآني الكريم جاء في أوائل الربع الأخير من سورة "التغابن", وهي سورة مدنية , وآياتها ثماني عشرة (18) بعد البسملة , وهي آخر "المسبحات" , وقد سميت باسم "التغابن" لوصف يوم القيامة وما فيه من بعث, وحشر, وحساب, وجزاء في هذه السورة, و"التغابن" من أسماء ذلك اليوم لأن الكافر يغبن نفسه فيه أي يظلمها بكفره , والمسلم المقصر في أمر دينه يغبن نفسه بتقصيره .

ويدور المحور الرئيسي لسورة "التغابن" حول عدد من التشريعات الإسلامية – شأنها في ذلك شأن كل السور المدنية – وإن أشارت إلى عدد من ركائز العقيدة .

هذا , وقد سبق لنا استعراض سورة "التغابن" , وما جاء فيها من تشريعات وعقائد إسلامية وإشارات علمية , ونركز هنا على وجه الإعجاز التربوي في النص الذي اخترناه من هذه السورة المباركة ليكون عنوانا لهذا المقال .

من أوجه الإعجاز التربوي في النص الكريم

يقول ربنا- تبارك وتعالى- في محكم كتابه :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُواًّ لَّكُمْ فَاحْذَرُوَهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ *) (التغابن: 14)

ومن معاني هذه الآية الكريمة أن من الأزواج والأبناء من يمكن أن يكون عدوا للعبد المؤمن لأنهم يشكلون عائقا بينه وبين عمل الخير ويحولون بينه وبين القيام بواجبات الطاعة لله- تعالى- بل قد يدفعونه إلى السعي في اكتساب الحرام وارتكاب الآثام من أجل تحقيق رغباتهم المادية العاجلة بأي ثمن, وذلك انطلاقا من فرط محبته لهم , ومن شدة تعلقه بهم, ولذلك تأمر الآية الكريمة بضرورة الحذر من هذا النوع من الزوجات والأولاد حتى تؤمن غوائلهم, وتدفع شرورهم, وذلك بعدم الاستجابة لرغباتهم, أو الطاعة العمياء لأهوائهم.

وفي أسباب نزول هذه الآية الكريمة يذكر المفسرون أن رجالا من أهل مكة كانوا قد أسلموا وأرادوا الهجرة , ولكن أزواجهم وأولادهم ثبطوهم عن القيام بذلك, فلم يتمكنوا من تحقيق الهجرة إلا بعد مدة من الزمن, فلما أتوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رأوا الناس من حوله قد سبقوهم في فهم الدين والتفقه فيه, فندموا وأسفوا, وهموا بمعاقبة الذين ثبطوا هممهم فنزلت الآية الكريمة وفي ختامها قوله- تعالى- (... وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ *) (رواه الترمذي).

وعلى الرغم من ذلك فإن الآية تعم كل من انصرف عن طاعة الله- تعالى- استجابة لإغواء أزواجه أو أبنائه- لأن الأصل في التعامل مع نصوص القرآن الكريم هو الاعتبار بعموم النص لا بخصوص السبب.

وانطلاقا من ذلك جاء هذا التحذير من إمكانية هيمنة الأزواج والأولاد على العبد المؤمن لصرفه عن طاعة الله- تعالى- انطلاقا من الحرص على الأموال أو المحافظة على السلامة لأن ذلك مدخل من مداخل الشيطان الذي يستغل العاطفة بين الزوجين وتلك التي تربطهما بأبنائهما لتحقيق غايته ولذلك اتبعت هذه الآية الكريمة بقول ربنا- تبارك وتعالى-: ( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواوَأَطِيعُواوَأَنفِقُوا خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ*) (التغابن:15,16). وهذه الآيات الثلاث في سورة التغابن (14-16) تنبه العبد المؤمن إلى إمكانية أن يكون له من زوجه وولده عدوا له يصرفه عن البذل في سبيل الله حرصا على المال , أو يثبطه عن الجهاد في سبيل الله حرصا على النفس, أو يستغل نفوذه إذا كان صاحب نفوذ للإفساد في الأرض. والآيات تشير إلى حقيقة أنه قد يكون من الأزواج والأولاد ما يشغل العبد المؤمن عن طاعة الله, أو يدفعه إلى التقصير في شئ من ذلك, فيحرمه من تحقيق الغاية من وجوده في هذه الحياة الدنيا: عبدا لله مطالبا بالاجتهاد في عبادته بما أمر, ومستخلفا ناجحا في الأرض مطالبا بعمارتها وإقامة شرع الله وعدله في ربوعها.

وقد تكون الزوجة والأبناء في طريق غير طريق الزوج المؤمن, فيحاولون جاهدين صرفه عن طريقه السوي إلى طرقهم الملتوية فيهلكوه, أو أن يستغلوا جاهه وسلطانه في غير ما يرضي الله فيدمروه تدميرا كاملا. وقد اقتضى كل ذلك هذا التحذير الإلهي الشديد لكل عبد مؤمن من إمكانية الوقوع في موقف يعجز فيه عن المفاصلة بينه وبين زوجه وأبنائه إذا وقفوا عائقا حقيقيا دون تحقيق عبوديته لخالقه. ثم كررت الآيات في سورة "التغابن" هذا التحذير في صورة أخرى هي فتنة الأموال والأولاد , بمعنى الابتلاء والاختبار, أو بمعنى الافتتان حتى الوقوع في عدد من المخالفات الشرعية سواء كانت صغيرة أو كبيرة ولذلك قال- تعالى-: ( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ*) (التغابن:15).

وهذا التحذير من الله الخالق- سبحانه وتعالى- الذي يعلم ما تجيش به قلوب العباد , ويعلم ضعف الإنسان أمام كل من زوجة وأبنائه ليحطاط لنفسه من إمكانية الوقوع تحت مثل هذه الضغوط العاطفية, فيخسر الدنيا والآخرة , ولذلك قال- تعالى-: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواوَأَطِيعُواوَأَنفِقُوا خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ*) (التغابن:16).

وهذا التخفيف بقول الحق- تبارك وتعالى-: (مَا اسْتَطَعْتُمْ) هو لطف من الله بعباده لعلمه- سبحانه وتعالى- بضعف الإنسان أمام ضغوط الزوجة والأبناء , وبمدى طاقة العبد المؤمن في سبيل الاستقامة على منهج الله , وانطلاقا من ذلك يروى عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قوله: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم , وما نهيتكم عنه فاجتنبوه" (أخرجه الشيخان). وأخرج الإمام أحمد- بإسناده عن عبد الله بن بريدة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يخطب, فجاء الحسن والحسين- رضي الله عنهما- عليهما قميصان أحمران , يمشيان ويعثران فنزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من المنبر فحملهما, فوضعهما بين يديه , ثم قال: " صدق الله و رسوله. (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران , فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما ".

من هنا يتضح وجه الإعجاز التربوي في النص القرآني الذي اتخذناه عنوانا لهذا المقال لأن تقدير كل من الأزواج والأولاد لمتطلبات المواقف هي في العادة تقصر عن تقدير العبد المؤمن لها, ومن ثم فلا يجوز له أن يخضع لضغوطاتهم حتى لا يصدوه عن فعل الخيرات ولا يمنعوه عن المضي في طاعة الله خاصة إذا كانت لهم منطلقات مغايرة لمنطلقاته, أو محاولات لاستغلال نفوذه من وراء ظهره إذا كان صاحب نفوذ. وقد دمرت مخططات الأزواج والأولاد كثير من الملوك والرؤساء والقادة السياسين في مختلف شعوب الأرض على مرور التاريخ دون أن يتعظ بدمارهم غيرهم ...!!

فالحمد لله على نعمة الإسلام , والحمد لله على نعمة القرآن , والحمد لله على بعثة خير الأنام , صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تيع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين .

نقلاً عن الأستاذ الدكتور/ زغلول راغب النجار


بحث مفصل



المقالات ذات صله