حقيقة ابتلاء المؤمن


السؤال

سؤالي عن الانسان الغير مبتلي ،، فلله الحمد والمنة بعد إتمامي فريضة الحج أسير بعون الله وكرمه على الصراط المستقيم قدر استطاعتي ، وأتعلم العلم الشرعي ، وأحاول أن أطبق ما أتعلمه ،

وأحاول قدر الاستطاعة أن أتقرب إلي الله تعالي بنوافل الطاعات ، وأرجو أن أكون ممن تقبلهم الله عنده بعفوه ورحمته ، ولكن لا أشعر في حياتي بابتلاء لا سابقا ولا حاليا ، فهل معنى أنني غير مبتلى أني لست مؤمنا حقا ؟

نص الجواب

الحمد لله

أولًا :

المسلم يستقيم على أمر الله تعالى ، ويأتي منه ما استطاع ، ويبتعد عن نهي الله تعالى ويجتنبه ، فإنه إن فعل ذلك = رُجي له الخير في الدنيا والآخرة .

والأصل في المسلم ألا يستعجل البلاء ، وألا يطلبه ، وقد ورد هذا المعنى في أحاديث كثيرة ، منها :

قوله رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَيُّهَا النَّاسُ ، لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ ، وَسَلُوا اللَّهَ العَافِيَةَ ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ البخاري (2966)، ومسلم (1742).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَهْدِ البَلاَءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ القَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ البخاري (6616)، ومسلم (2707).

وعَنْ أَنَسٍ : " أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَادَ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفَتَ فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هَلْ كُنْتَ تَدْعُو بِشَيْءٍ أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ؟) قَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَقُولُ:

اللهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ، فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سُبْحَانَ اللهِ لَا تُطِيقُهُ - أَوْ لَا تَسْتَطِيعُهُ - أَفَلَا قُلْتَ: اللهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ، قَالَ: فَدَعَا اللهَ لَهُ، فَشَفَاهُ " مسلم (2688).

وأما الأحاديث الواردة في فضل الصبر على البلاء ، كحديث أنس قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ العُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ رواه الترمذي (2396).

فإن المقصود منها " الْحَثُّ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى الْبَلَاءِ بَعْدَ وُقُوعِهِ ، لَا التَّرْغِيبُ فِي طَلَبِهِ لِلنَّهْيِ عَنْهُ "، انظر : "تحفة الأحوذي" للمباركفوري (7/ 66).

فينبغي على الإنسان أن يوطن نفسه على الصبر عند البلاء ، والشكر عند الرخاء .

ثانيا:

لا يجوز طلب البلاء ، أو تمنيه ، بل على المسلم أن يشكر الله تعالى على نعمه ، بل ينبغي على العبد طلب العافية من الله جل جلاله، في الدنيا والآخرة، وأن يجعله الله من أهل العافية ،

الذين عافاهم الله من شؤم المعاصي، وعقوباتها، في الدنيا والآخرة ، وهذه هي العافية المطلقة ، أن يُعافي الله عبده من شؤم المعاصي في الدنيا ، وأن يعفو عن زلاته، ويعافيه من العقوبة في الدنيا والآخرة .

قال ابن القيم في "شفاء العليل" (ص111) :" وقوله : " وعافني فيمن عافيت " إنما يسأل ربه العافية المطلقة ، وهي العافية من الكفر والفسوق والعصيان، والغفلة والإعراض، وفعل ما لا يحبه، وترك ما يحبه ؛ فهذا حقيقة العافية ، ولهذا ما سئل الرب شيئا أحب إليه من العافية لأنها كلمة جامعة للتخلص من الشر كله وأسبابه " انتهى .

وهذا الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله به في كثير من أحواله .

فكان يدعو حين يصبح وحين يمسي بالعافية في دينه ودنياه .

فقد روى أبو داود في "سننه" (5074) ، من حديث عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما ، قال :" سمعتُ ابنَ عمر يقولُ: لم يكن رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يَدَعُ هؤلاء الدعواتِ حينَ يُمْسِي وحينَ يُصبحُ:

اللَّهُمَّ إني أسالُكَ العافيَةَ في الدُنيا والآخرة ، اللَّهُمَّ إني أسالُكَ العفوَ والعافيَةَ في ديني ودنياي وأهلي ومالي ، اللَّهُمَّ استُر عوراتي، وآمِن رَوْعَاتي ، اللَّهُمَّ احفظني مِنْ بين يدىَّ ومن خلفي ، وعن يميني وعن شِمالي ، ومن فوقي ، وأعوذُ بعظمتِكَ أن أُغْتَال مِن تحتي .

والحديث صححه الشيخ الألباني في "صحيح ابن ماجه" (3121) .

وكان صلى الله عليه وسلم يدعو الله في قنوته فيقول: وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ .

أخرجه الترمذي في "سننه" (464) ، وصححه الشيخ الألباني في "صحيح أبي داود" (1281).

ولذا كانت العافية هي خير ما أعطى الله عبده بعد الإيمان واليقين ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نسأل الله إياها ، كما في الحديث الذي أخرجه الترمذي في "سننه" (3558) ، من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اسْأَلُوا اللَّهَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ ، فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُعْطَ بَعْدَ اليَقِينِ خَيْرًا مِنَ العَافِيَةِ .

والحديث صححه الشيخ الألباني في "صحيح الترمذي" (2821) .

وينظر جواب السؤال رقم : (299472) .

ثالثا:

اعلمي، يا أمة الله، أن العافية : هي من أعظم نعم الله على عبده ، فاحمدي الله على عفوه، ومعافاته، واعلمي أن ذلك يفتح لك بابا من العبودية، متى قمت بحقه، كان ذلك خيرا لك في الدنيا والآخرة، وهو مقام "الشكر" لله جل جلاله، فهذه عبودية أهل العافية، أن يقوموا لله بشكره.

قال الله تعالى : قَالَ الله تَعَالَى : فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ البقرة/152 ] . وقال تَعَالَى : لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ إبراهيم /7 .

وقال تعالى، في صفة دعاء العبد الصالح: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ الأحقاف/15 .

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا رواه مسلم (2734).

وعن معاذ بن جبل: أن رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلم - أخذ بيدِه وقال: يا معاذُ ؛ والله إني لأحِبُّك .

فقال: أُوصيكَ يا معاذ ؛ لا تَدَعن في دُبُر كُل صلاةٍ تقول: اللهُمَّ أعني على ذِكْرِكَ وشُكْرِكَ وحُسْنِ عِبادَتك رواه أبو داود (1532) وغيره، وصححه الألباني.

قال ابن القيم رحمه الله: " ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين [الفاتحة: 5] منزلة الشكر

وهي من أعلى المنازل. وهي فوق منزلة الرضا وزيادة. فالرضا مندرج في الشكر. إذ يستحيل وجود الشكر بدونه.

وهو نصف الإيمان - كما تقدم - والإيمان نصفان: نصف شكر. ونصف صبر.

وقد أمر الله به. ونهى عن ضده، وأثنى على أهله. ووصف به خواص خلقه. وجعله غاية خلقه وأمره. ووعد أهله بأحسن جزائه. وجعله سببا للمزيد من فضله. وحارسا وحافظا لنعمته. وأخبر أن أهله هم المنتفعون بآياته.

واشتق لهم اسما من أسمائه. فإنه سبحانه هو الشكور وهو يوصل الشاكر إلى مشكوره بل يعيد الشاكر مشكورا. وهو غاية الرب من عبده. وأهله هم القليل من عباده. قال الله تعالى: واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون [النحل: 114] وقال واشكروا لي ولا تكفرون [البقرة: 152]

وقال عن خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين - شاكرا لأنعمه [النحل: 120 - 121] وقال عن نوح عليه السلام إنه كان عبدا شكورا [الإسراء: 3] وقال تعالى:

والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون [النحل: 78] وقال تعالى: واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون [العنكبوت: 17] وقال تعالى: وسيجزي الله الشاكرين

[آل عمران: 144] وقال تعالى: وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد [إبراهيم: 7] وقال تعالى: إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور [إبراهيم: 5]

وسمى نفسه شاكرا وشكورا وسمى الشاكرين بهذين الاسمين. فأعطاهم من وصفه. وسماهم باسمه. وحسبك بهذا محبة للشاكرين وفضلا.

وإعادته للشاكر مشكورا. كقوله: إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا [الإنسان: 22] ورضا الرب عن عبده به. كقوله: وإن تشكروا يرضه لكم [الزمر: 7] وقلة أهله في العالمين تدل على أنهم هم خواصه. كقوله:

وقليل من عبادي الشكور [سبأ: 13] وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام حتى تورمت قدماه. فقيل له: تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: أفلا أكون عبدا شكورا؟ " انتهى، من "مدارج السالكين" (2/222-223).

والله أعلم.




المقالات ذات صله