توكل كرمان ولغز الجائزة الكبرى

لا شك أن لجائزة نوبل العالمية صدى مدويا في الدوائر العربية والعالمية، وإن كان الأمر في العالم العربي أكثر تأثرا ؛ فالجائزة لم تتجه إلى آفاق الشرق الأوسط إلا مرات قليلة وهو ما جعل منها ضيفًا مرغوبًا ومأمولاً في كثير من الأحيان بالرغم من أن الاتهامات المحيطة بها منذ عقود طويلة كفيلة بأن تجعل منها جائزة سيئة السمعة تشوبها لمسة صهيونية غير محببة وفكر نفعي مسيس يبعد أحيانًا بالتكريم عن أصله وسببه. فكم من فائزين بها قد أحاطت بهم اللعنات بعد تكريمهم، وكم من فائزين بها لم يظهر لهم أي وهج بعدها!
ودائمًا ما اقترن الإعلان عن الفائزين بنوبل بموجة من التخمينات والتكهنات التي تسبق الإعلان عن الفائز وتنبري في افتراض الشخصيات المرشحة؛ فتظل كل شخصية تحلم بهذا التكريم الكبير حتى تعلن اللجنة اسم الفائز الفعلي.
أما بطلة نوبل للسلام هذا العام الناشطة اليمنية "توكل كرمان"- التي تقاسمت الجائزة مع كلٍ من رئيسة دولة ليبيريا "إلين جونسون سيرليف" والناشطة لأجل السلام "ليما غبوي"- لم تكن خيارًا ساطعًا بين التوقعات ولم تكن هي نفسها تتوقع مثل هذا التكريم الدولي. وجاء إعلان فوزها ليقلب الحسابات والتكهنات ويفتح بابًا من الألغاز حول أسباب منح جائزة نوبل للسلام لناشطة حقوقية في الثلاثينات من عمرها ربما قدم غيرها أضعاف ما قدمته في مجالات حقوق الإنسان والدفاع عن المرأة ومكافحة الفساد.
ولنحاول في السطور التالية الاقتراب من الأمر على نحو أكبر والنظر في علامات الاستفهام التي خلقت نوعًا من التباين في الآراء حول مدى استحقاق كرمان للجائزة والتكريم.
كرمان والبطل التراجيدي
تترأس السيدة "توكل كرمان" منظمة صحفيات بلا قيود منذ عام 2005, وهي عضو مجلس الشورى في حزب التجمع اليمني للإصلاح الذي يمثل تيار "الإخوان المسلمين" في اليمن., كما أنها كاتبة صحفية في العديد من الصحف والمواقع الالكترونية منذ عام 2001 ومدربة في مجال مكافحة الفساد, وحقوق الإنسان. برزت بصورة لافتة كقيادية لثورة الشباب اليمنية المطالبة برحيل الرئيس اليمني "على عبد الله صالح" عن السلطة؛ ولكنها شخصية تذكر بالبطل التراجيدي في الدراما الكلاسيكية الغربية؛ وهو البطل الذي يتسم بالكثير من الصفات الطيبة ولكن لديه عيب قاتل هو ما يؤدي به في نهاية المطاف إلى نهاية غير متوقعة.
فالناشطة كرمان- التي تسمى بأم الثورة اليمنية- تخوض معاركها تقريبًا منذ عام 2001 وهي شخصية جسورة وطموحة وذات عزيمة تتعقب أهدافها وتحقق أكثر مما تطمح إليها، ولكنها بحسب آراء عدد من المتظاهرين المشاركين في مظاهرات "ساحة التغيير" تمتلك شخصية قوية، لكنها تفتقر إلى المبادئ الأساسية للقيادة .. تفعل الأشياء في الغالب بالطريقة التي تريد ولا تستمع إلى آراء الآخرين. إنها –بحسب ما وصفتها عدة دوائر - دكتاتورية تدعو إلى الحرية"، أما المراسلة "سودرسان راجفان" من صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية كانت قد أجرت أكثر من حديث مع كرمان ووصفتها بأنها شخصية مثيرة للجدل وتتمتع بإصرار كبير.
ليس هذا فحسب، فبالرغم من الدور الرائد الذي لعبته ابنة اليمن في الدفاع عن حقوق المرأة وتكريس حياتها منذ شهور لدعم الانتفاضة الشعبية، فإن "بلقيس العرب"- كما أطلق عليها البعض- تعاني من قصور واضح في مواجهة الإعلام والتعبير عن مبادئها وأفكارها دون عبارات حماسية وأسلوب خطب؛ وهو الأمر الذي عكسه بوضوح لقاؤها مع برنامج "بلا حدود" الذي تعرضه قناة الجزيرة ويقدمه الإعلامي "أحمد منصور".
نوبل وتكريم المرأة العربية
وإذا كانت الجائزة بالفعل تزكية دولية كبرى وتكريمًا لم تنله من قبل امرأة عربية، فإن التساؤل الملح هنا هو : ماذا لو كانت سيدة فلسطينية هي من قامت بهذا الدور الكبير في وجه الفساد والاحتلال الصهيوني، هل كانت لجنة نوبل ستمنحها الجائزة؟! وإذا كانت الإجابة "لا" نظرًا لكون "ألفريد نوبل" رجل سويدي من أصل يهودي؛ فإننا بلا شك أمام إشكالية أخرى.
فالسيدة كرمان لم تسع من أجل العالمية ولكنها حملت هموم أبناء وطنها وساهمت في كتابة العديد من التقارير حول الحريات الصحفية، والفساد في اليمن، كما قادت العديد من الاعتصامات والتظاهرات السلمية التي تنظمها أسبوعياً في ساحة أطلقت عليها مع مجموعة من نشطاء حقوق الإنسان في اليمن اسم "ساحة الحرية"، وفي كل ذلك جهد خالص يحسب لها، ولكن كم من الناشطات النساء في منطقتنا العربية قمن بذلك دون أن يحصلن على تكريم يذكر؟! وهذا هو ما يجعل من الضروري ألا نستبعد الحسابات السياسية عند النظر إلى واقع تلك القضية؛ فنشطاء الثورة المصرية والتونسية على سبيل المثال بالرغم مما حققوه فعليًا من حشد الصفوف وإسقاط أنظمة ديكتاتورية لم يفوزوا بتلك الجائزة، فلماذا تخيرت لجنة نوبل السيدة اليمنية "توكل كرمان" المسلمة الملتزمة التي ترتدي الحجاب الإسلامي؟!
لغز الجائزة
في الواقع يحتمل الأمر عدة احتمالات فقد ذهب بعض الرافضين للجائزة إلى أن الناشطة اليمنية قد أعلنت موقفًا خطيرًا؛ وهو أنها لا تمانع في إعطاء اليهود اليمنيين حق الترشح لرئاسة البلاد؛ حيث ظهرت تعلن ذلك في مقطع فيديو يعرض لإحدى الجلسات.
وعلى الرغم من عدم إمكانية التأكد مما إذا كان المشهد المصور صحيحًا أم لا؛ فإن مثل تلك التصريحات المغالية كثيرًا ما تصدر عن السياسيين لإثبات نزعتهم إلى الحرية والعدالة دون قيود؛ فها هو "محمد مهدى عاكف"،المرشد العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، كان قد صرح منذ شهور أن الجماعة لا تمانع في أن يتولى أحد المسيحيين منصب رئيس حزب "الحرية والعدالة" – الممثل للإخوان المسلمين- كما أعلن مؤخرًا الدكتور "عبد المنعم أبو الفتوح"، المرشح الرئاسي المحتمل في مصر، أنه لا يمانع في حال نجاحه في الانتخابات القادمة أن يكون نائبه مسيحيًا طالما تمتع بالكفاءة المطلوبة.
أما المدافعون المؤيدون لاستحقاق كرمان للجائزة فاعتبروا أن تكريم كرمان هو تكريم للعرب رجالاً ونساءً وأن حصول عربية مسلمة على جائزة نوبل للسلام يخرج العرب من الدائرة المفرغة التي يدورون فيها منذ عقود، ويدفع بهم إلى بؤرة الاهتمام الدولي كشعوب مستنيرة لا تعيش فقط فوق أراض أثرية وتاريخية تروي حضارة ماضية ولكنهم بناة حضارة معاصرة.
وإذا كان من المنطقي عرض وجهتي النظر المختلفتين، فإن هناك منظور آخر ربما أغفل البعض التأمل فيه؛ ألا وهو أنه في ضوء التسييس الذي يشوب الجائزة، فإن كرمان ربما تكون مستهدفة هي نفسها. وفي مسألة الاستهداف لا يشترط أبدًا أن تكون الضحية واضحة ولكن الأهم أن يكون لديها ما ليس لدى الآخرين؛ وهذا فعليًا يتوافر في "توكل كرمان". فهي الناشطة العنيدة التي تؤمن بعدالة قضيتها وتتبنى أفكارًا تتشبث بها وتتعامل مع معارضيها من منطلق الديكتاتورية الفكرية؛ فإذا ما تم التأثير على تلك المبادئ تحت أي مسمى سواء من خلال مؤتمرات أو ندوات أو لقاءات من المؤكد أنها ستشهد تزايدًا ملحوظًا خلال المرحلة المقبلة؛ فإن العواقب ستكون جسيمة إلى أبعد حد.
وربما يكون منح جائزة بهذا الحجم للسيدة اليمنية الثلاثينية هو رسالة ضمنية تفيد بأنها قد وقع عليها الاختيار لتحويلها إلى "بوق غربي"؛ أو في أفضل الأحوال إذا أبت وظلت على روحها الثائرة والقتالية فإن حصولها على الجائزة هو ضمان بأنها لن تفعل ولن تقدم أكثر مما قدمت؛ وفي هذا اغتيال فكري بكل تأكيد.
ولا شك أن الاختيار كان ذكيًا وماهرًا للغاية فأحيانًا قد تُوجه عيوب شخصية ما إلى صالح جهة أخرى ، فالسيدة كرمان لا تملك إلا مبادئ وحقوقا تسعى من أجلها ولكنها ليست على قدر كبير من الفصاحة الإعلامية أو المرونة الفكرية وهو ما بدا واضحًا من خلال لقاءاتها مع وسائل الإعلام العربية والعالمية التي بدت فيها كناشطة ثورية وليس كشخصية سياسية من المتوقع لها أن تتولى منصب بارز في أي حكومة يمنية مقبلة في حال سقط نظام "علي عبد الله صالح".
وإذا كان لا يزال المغزي الحقيقي للتكريم يكتنفه الغموض، فإن محاولات قلب الأوراق ليس باللعبة الجديدة، فربما كان منحها الجائزة بمثابة فخ لها لنزول السلم من الدرجات الأعلى بدلاً من الصعود إليه؛ أي منحها الجائزة أولاً ثم محاولة التأثير عليها ومن ثم الوصول إلى حالة من اثنتين إما التواجد في بؤرة الضوء أو الانزواء بعيدًا. ليس هذا فحسب، بل ربما كانت هناك أيادٍ تسعى لتشويه صورتها والإجهاز على الحبور العربي والدولي بالتكريم.
وعلى ذلك فإن التكريم الكبير جاء يحمل معه العشرات من علامات الاستفهام التي ينبغي معها الحرص والانتباه لما يحاك للربيع العربي من مؤامرات




المقالات ذات صله