حكاية القائد الذى حمل رأسه على كفه

«مشير النصر» يروى حكاية القائد الذى حمل رأسه على كفه فى حرب 73.. وأطلق الجملة التى أصبحت أيقونة عالمية: «نعم نستطيع»

كنت فى التاسعة من عمرى، حين دوى صوت الطائرة المقاتلة فى السماء.. كان يوماً مختلفاً فى المدرسة.. إذ كان مدهشاً لنا جميعاً أن يهرع المعلمون إلى فصولنا المتواضعة، ويطلبوا إغلاق الكتب والكراريس والانصراف فوراً إلى البيوت.. قالت لنا الأسـتاذة «صباح» بذعر: «لموا الكراريس»، تلك العبارة التى فهمتها بعد ذلك بسنوات، حين قرأت قصة تلاميذ مثلنا فى مدرسة بحر البقر.. وعلى خلفية القصة كنت أسمع العبارة ذاتها: «الدرس انتهى لموا الكراريس».. مات زملاؤنا فى «بحر البقر»؛ لأن طائرات العدو الإسرائيلى لم تجد يومها من يردعها، فأحرقت الأطفال الأبرياء.. فأى درس تعلمناه؟!

رضعتُ من ثدى أمى كراهية إسرائيل.. وكان أبى ناظراً لمدرسة مكتوب على جدرانها: «الموت أشرف من الخنوع» و«الكرامة أن تُدفن فى الأرض التى لا تقوى على تحريرها».. وبين البيت الذى ترعاه أمى والمدرسة التى يكدح فيها أبى بيوت كثيرة مخضبة بدماء الشهداء.. وفى البيوت حزن على الذين راحوا، فى الهزيمة، وأمل خافت فى نصر قد يأتى أو لا يأتى.. أما أنا فلم يضعنى أبى فى مدرسته، وإنما حشرنى فى مدرسة «الشهداء الابتدائية بمنيا القمح»، يومها قال لى: «لا أريدك أن تكون ابن الناظر».. صدَّقته، ولكننى فيما بعد عرفت أنه أراد لى أن أتعلم مبكراً أن ثمة رجالاً يموتون دفاعاً عن الأرض والعرض، فيقولون عنهم الشهداء، ثم ندخل نحن مدارس الشهداء، حتى لو لم تُعلمنا المدارسُ كيف نموت مثلهم..!

لم يكن لمدرسة الشهداء باب لنخرج منه، فالفصول على الحوش، والحوش على الشارع، وبيتنا فى نهاية الشارع، وأمى تنتظرنى اليوم على غير العادة أمام «الفصل»، فلا أنا فهمت لماذا هرع المدرسون، وقذفوا بنا مبكراً خارج الفصول، ولا أنا عرفت لماذا جاءت أمى مهرولة لتأخذنى فى حضنها إلى البيت.. ثمة شىء غير اعتيادى يحدث اليوم، حتى السماء، كانت تهتز من صوت الطائرات، ورغم ذلك كنت أسمع دقات قلب أمى ممتزجة بدعائها.. يا رب انصرهم، يا رب ما تخيّب أملهم.. وكنت أردد معها «آمين»، دون أن أعرف شيئاً، فهى أمى التى تدعو، والمؤكد أن دعاءها خير، ولكن يدها القابضة على يدى ترتجف.. سألتها: «هو فيه إيه؟».. لم ترد وواصلت الدعاء، ثم قذفت بى إلى جوار إخوتى فى البيت، وفتحت التليفزيون والراديو، وهى تتلو آية الكرسى..!

إنها الحرب.. عرفت ذلك بعد لحظات.. فلا حديث لأحد فى البيت أو خارجه إلا عنها.. والواقع أننى لم أتابعها عبر الراديو أو التليفزيون، ففى بلكونات المنازل بالشرقية، وعلى مقربة من مدن القناة، ثمة أماكن أثيرة لمتابعة الطائرات، وطوال سنوات الاستنزاف، كانت الطائرات تجوب السماء، فيحلو لى أن أصادقها.. هى تمنحنى متعة النظر إلى أعلى، وأنا أحصيها وهى ذاهبة، ثم أتمم عليها فى إيابها.. لذا ارتبطت الحرب فى ذهنى بالطائرات والطيارين.. غير أننى حين كبرت، لم أحب اختزال نصر أكتوبر فى الراحل أنور السادات، بطل الحرب والسلام، وحسنى مبارك بطل الضربة الجوية، رغم أنه طيار..!

طوال أربعين عاماً، خضعت حرب أكتوبر لهواية مصرية قديمة لا نريد أن نبرحها: كتابة التاريخ بالهوى الشخصى.. الحقائق هى ما نراه نحن، والوقائع بين أصابع من يدوِّنها، لذا بات طبيعيًّا أن يفتح المؤرخون مئات الكتب والمؤلفات للسادات ومبارك، ويتجاهلوا المشير أحمد إسماعيل وزير الحربية الذى وضع خطة الحرب وقاد الجيش فى نصر أكتوبر.. إنه التاريخ حين يُدوَّن لممالأة الحاكم، وكأن الموت الذى خطف المشير المنتصر عقب أشهر قليلة من الحرب، خطف معه دوره البارز فى الحرب.. غير أن الموت ذاته كان سينهى حياة أحمد إسماعيل لو فشلت خطته فى الحرب.. الموت المادى فى محاكمة الهزيمة، أو الموت المعنوى له ولذريته من بعده.. لا فرق.. فالرجل الذى كان متقاعداً فى بيته قبل الحرب، كان أكثر شجاعة وكفاءة من قادة قالوا للسادات بصوت مرتفع: «ليس بمقدورنا أن نحارب الآن»، ولأنه لا يؤمن بالمستحيل، استدعى القائد الذى يمتلك إرادة حقيقية، وخطة متكاملة.. ولكن المشير أحمد إسماعيل، الذى ذهب للسادات ورقبته فوق كفه، كان أول من أطلق العبارة التى صارت أيقونة عالمية «yes we can».. وفعلها الرجل دون أن ينصت لتحذيرات المحيطين به من المصير الكارثى لو خسرت مصر تلك الحرب..!

هل عرفتم الآن لماذا نقبنا عن مذكرات المشير الراحل أحمد إسماعيل التى كتبها بخط يده؟!.. إنها فضيلة رد الجميل والعرفان لمواطن مصرى ضحّى بحياته ليرفع علم مصر عالياً فوق أرض سيناء، وهو واجب أيضاً على أجيال عاشت كريمة بفضل هذا الانتصار، وأنا منهم، والأهم من هذا وذاك أن يعرف أبناؤنا وأحفادنا من هو المشير أحمد إسماعيل، بطل حرب أكتوبر، الذى تجاهله البعض لأنه كان يؤمن بمبدأ العمل فى صمت..!

سيدى الراحل العظيم أحمد إسماعيل.. إليك أهدى هذا الكتاب.. وحتماً سوف تصلك كلماتى هذه: أنا فخور بك.. وشرف لى أن أضع مداد قلمى على صفحات من سيرة حياتك المجيدة.. فإذا كنت أنفقتُ فى مذكراتك عاماً كاملاً، فقد كرست أنت حياتك كلها لنحيا أحراراً.


بحث مفصل



المقالات ذات صله