من هو الامام ,ابو حنيفة النعمان ؟

الإمام أبو حنيفة بين أهل الفقه وأهل الحديث

الشيخ- سعد بن عبدالله السعدان

الناظر في سير علماء الملة، وأئمة الإسلام، يخرج بكمٍ هائل من الفوائد واللطائف، ويزداد معرفة وعلماً، فهم مدارس بأنفسهم، حياتهم تكتب بمداد من ذهب، دأبٌ عجيب في الطلب، وبذلٌ في التعليم والتصنيف والعطاء، وهمةٌ لا تنقطع، وصفات وأخلاق وتواضع يعجز المرءُ عن بيانها ووصفها، ولذا كانت كتابة السير والتراجم للأئمة الأخيار من ألطف وأنفع ما دون وكتب، وفي هذه الوقفة نستعرض علماً من أعلام الأمة وفقهاء الملة وهو الإمام أبو حنيفة النعمان يرحمه الله، وبالله التوفيق.

اسمه ونسبه:

هو النعمان بن ثابت بن زُوطى - بضم الزاي وفتح الطاء، التيمي، الكوفي، أبو حنيفة.

وقد أجمعت كتب التراجم على ذلك، ولم تختلف إلا مارواه الصيمري عن إسماعيل بن حماد حيث قال: أنا إسماعيل بن النعمان بن ثابت بن النعمان بن المرزبان(1).

وقد نقلها أصحاب التراجم عنه، كالخطيب في تاريخ بغداد(2)، والذهبي في السير(3)، وغيرهما.

قال ابن حجر الهيتمي: اختلفوا فيه، فقال أكثرهم وصححه المحققون أنه من العجم، وعليه ما أخرج الخطيب عن عمر بن حماد ولده أنه ابن ثابت بن زُوطي أي بضم الزاي كموسى، وبفتحها كسلمى، ابن ماه، من أهل كابل... ملكه بنو تيم الله بن ثعلبه فأسلم فأعتقوه وولد ثابت على الإسلام(4).

وقد ورد تسمية جد أبي حنيفة بزوطي كمامر، وعليه أكثر من ترجم له والمرزبان في رواية، والنعمان في أخرى.

وقال اسماعيل باشا: نعمان بن ثابت ابن كاوس بن هرمز مرزبان بن مهرام(5)، وينسب أبي الخزاز وإنما قيل له ذلك، لأنه كان يبيع الخز، ويأكل منه طلباً للحلال، ونسبته إلى التيمي لأن جده كما قيل: أسر عند فتح العرب لبلاد فارس، واسترق لبعض بني تميم بن ثعلبه، ثم أعتق، فكان ولاؤه لهذه القبيلة، وكان هو تيمياً بهذا الولاء، أما نسبته بالكوفي فلأنه موطنه الذي ولد وعاش فيه.

ولادته:

ولد الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - سنة ثمانين من الهجرة، وكان مولده في الكوفة، في خلافة عبدالملك بن مروان.

وقيل: إنه ولد سنة 63ه، وقيل: سنة 70ه والذي رجحه العلماء هو القول الأول، أي: أنه ولد سنة 80ه وهذا الذي ذكره ابن زبر الربعي(6).

نشأته وطلبه للعلم:

نشأ بالكوفة مكان ولادته وذلك في أسرة مسلمة، صالحة، غنية، كريمة، ويبدو أنه كان وحيد أبويه، وكان والده خزازاً، يبيع الأثواب في دكان له بالكوفة، وأخذ أبو حنيفة من والده هذه المهنة وخَلَفه بعد وفاته، وكان يتكسب منها، وكان مضرب المثل في الأمانة والصدق.

وقد وفق لحفظ القرآن في صغره، شأن أمثاله من ذوي النباهة، والصلاح، مع اشتغاله ببيع الخز مع والده، ويبدو أيضاً أنه لم يلتحق بسماع دروس العلماء وحضور حلقاتهم، ولم يطلب العلم في مجالسهم إلى أن وافق لقاء بينه وبين الشعبي، وكان ذلك فاتحة خير عظيم في حياة أبي حنيفة، قال أبو حنيفة: مررت يوماً على الشعبي وهو جالس فدعاني، وقال: إلى من تختلف؟ فقلت: أختلف إلى السوق، وسميت له أستاذي، فقال: لم أعن الاختلاف إلى السوق، عَنَيت الاختلاف إلى العلماء، فقلت له: أنا قليل الاختلاف إليهم، فقال لي: لا تفعل وعليك بالنظر في العلم ومجالسة العلماء، فإني أرى فيك يقظة وحركة، قال: فوقع في قلبي من قوله، فتركت الاختلاف إلى السوق، وأخذت في العلم فنفعني الله بقوله(7).

وقد اجتهد في الطلب ويبدو أن أول ما اتجه إليه علم النحو(8)، ثم علم الكلام، ومناقشة أهل الإلحاد والضلال، حتى بلغ فيه مبلغاً يشار إليه بالأصابع، ودخل البصرة أكثر من سبع عشرة مرة، يناقش ويجادل، ويرد الشبهات عن الشريعة، ويدفع عنها ما يريد أهل الضلال الإلصاق بها، وقد ناقش جهم بن صفوان حتى ألجمه وأسكته، وجادل الملاحدة، وناظر المعتزلة والخوارج فألزمهم الحجة، بل جادل غلاة الشيعة وأخرسهم.

ثم اتجه أبو حنيفة لعلم الفقه، ولزم حلقة شيخه حماد ابن أبي سليمان شيخ فقهاء الكوفة، وانصرف للفقه بكليته، وأكب على التفقه، وكانت ملازمته لشيخه التي بلغت ثماني عشرة سنة قد أكسبته فقهاً جماً، وما زال يداوم على حضور حلقة شيخه حتى بزّ أقرانه وتجاوز أمثاله وسابقيه، وكان أدبه مع شيخه موضع العجب، فلقد كان يقصده في بيته وينتظره عند الباب حتى يخرج لصلاته وحاجته، فيسأله ويصحبه، وبلغ به الأمر أنه كان إذا جلس في بيته لا يمد رجليه جهة بيت شيخه حماد، وكان إذا صلى دعا لشيخه حماد مع والديه.

واستمر على هذه الحال من الصحبة والملازمة حتى توفي حماد، فاتفق رأي تلامذته على استخلاف أبي حنيفة النعمان مكان شيخه فكان خير خلف لخير سلف، وانتهت إليه رئاسة مدرسة الكوفة التي عرفت بمدرسة الرأي، وأصبح إمام فقهاء العراق غير منازع، وسارت بذكره الركبان، واشتهر في الآفاق، وقد اجتمع بعلماء عصره بالبصرة ومكة، والمدينة، ثم ببغداد لما بناها المنصور، واستفاد منهم، واستفادوا منه، وما زالت شهرته تتسع حتى غدت حلقته مجمعاً علمياً يجتمع فيه من كبار المحدثين كعبدالله بن المبارك، وحفص بن غياث، وغيرهما، مع كبار الفقهاء كأبي يوسف، ومحمد، وزُفر، مع كبار الزهاد كالفضيل ابن عياض، وداود الطائي وغيرهم.

سبب طلبه للفقه:

طلب أبو حنيفة الحديث وأكثر منه في سنة مئة وما بعدها كما قال الذهبي(9).

قلت: ورواياته كما سيأتي قليلة مع أن الذهبي يقول بأنه أكثر من الرواية! ولكن النسائي وهو المتقدم وصفه - كما سيأتي بقلة الرواية - ولعل مراد النسائي من قلة الرواية مقارنة بأقرانه كالثوري وشعبة والأوزاعي ومالك. ويتوجه كلام الذهبي من أن أبا حنيفة أكثر من الرواية من جهة أنه حصل حديثاً كثيراً إلا أنه لم يحدث إلا بما يحفظ كما قال يحيى بن معين، ثم اتجه بكليته للفقه حتى برز وأصبح المقدم فيه وتروى بعض الحكايات في سبب انقطاعه للفقه، فعن زفر بن الهذيل، قال سمعت أبا حنيفة يقول: كنت أنظر في الكلام حتى بلغت فيه مبلغاً يشار إلي فيه بالأصابع، وكنا نجلس بالقرب من حلقة حماد بن أبي سليمان، فجاءتني امرأة يوماً فقالت لي: رجل له امرأة أمة، أراد أن يطلقها للسنة، كم يطلقها؟ فلم أدر ما أقول. فأمرتها أن تسأل حماداً، ثم ترجع تخبرني. فسألته، فقال: يطلقها وهي طاهر من الحيض والجماع تطليقة، ثم اتركها حتى تحيض حيضتين، فإذا اغتسلت فقد حلت للأزواج، فرجعت، فأخبرتني فقلت: لا حاجة لي في الكلام، وأخذت نعلي فجلست إلى حماد، فكنت أسمع مسائله، فأحفظ قوله، ثم يعيدها من الغد فأحفظها، ويخطئ أصحابه، فقال: لا يجلس في صدر الحلقة بحذائي غير أبي حنيفة، فصحبته عشر سنين، ثم نازعتني نفسي الطلب للرئاسة، فأحببت أن أعتزله وأجلس في حلقة لنفسي. فخرجت يوماً بالعشي، وعزمي أن أفعل، فلما رأيته لم تطب نفسي أن أعتزله، فجاءه تلك الليلة نعي قرابة له قد مات بالبصرة، وترك مالاً، وليس له وارث غيره. فأمرني أن أجلس مكانه، فما هو إلا أن خرج حتى وردت عليّ مسائل لم أسمعها منه، فكنت أُجيب وأكتب جوابي، فغاب شهرين ثم قدم، فعرضت عليه المسائل، وكانت نحواً من ستين مسألة، فوافقني في أربعين، وخالفني في عشرين، فآليت على نفسي ألا أفارقه حتى يموت.

قال الحافظ الذهبي متعقباً هذه الحكاية: وهذه أيضاً الله أعلم بصحتها، وما علمنا أن الكلام في ذلك الوقت كان له وجود، والله أعلم(10).

وقال أحمد بن عبدالله العجلي حدثني أبي قال: قال أبو حنيفة: قدمت البصرة فظننت أني لا أسأَلُ عن شيء إلا أجبت فيه، فسألوني عن أشياء لم يكن عندي فيها جواب، فجعلت على نفسي ألا أفارق حماداً حتى يموت فصحبته ثماني عشرة سنة(11).

ثناء العلماء على فقهه وعلمه:

قال علي بن عاصم: لو وُزن علم الإمام أبي حنيفة بعلم أهل زمانه لرجح بهم. وقال حفص بن غياث: كلام أبي حنيفة في الفقه، أدق من الشعر، لا يعيبه إلا جاهل. وقال جرير: قال لي مغيرة: جالس أبا حنيفة تفقه، فإن إبراهيم النخعي لو كان حياً لجالسه.

وقال ابن المبارك: أبو حنيفة أفقه الناس. وقال الشافعي: الناس في الفقه عِيَالٌ على أبي حنيفة. وقال الذهبي: الإمام فقيه الملة، عالم العراق، وقال: عُني بالآثار، وارتحل في ذلك، وأما الفقه والتدقيق في الرأي وغوامضه، فإليه المنتهى والناس عليه عِيَال في ذلك(12).

شيوخه وتلامذته:

أدرك أبو حنيفة بعض الصحابة في صغره، لكنه لم يجد في حال نشأته من يرشده لطلب العلم، والأخذ عمن يمكنه السماع ممن أدرك منهم، فاشتغل بالبيع والشراء، وتعاطى التجارة، إلى أن أرشده الإمام الشعبي لطلب العلم - كما تقدم - فَجدَّ في الطلب، وأدرك علماً جماً، وعلماء كُثُر، ونجد في تهذيب الكمال وسير أعلام النبلاء طائفة من شيوخه بلغ عددهم خمسين شيخاً ومن أبرزهم: شيخه الذي لازمه حتى استفاد منه علم الفقه حماد بن أبي سليمان، وعطاء بن أبي رباح، وعطية العوفي، وعبدالرحمن بن هُرْمُز الأعرج، وعكرمة، ونافع، وعدي ابن ثابت، وعمرو بن دينار، وسلمة بن كهيل، وقتادة بن دعامة، ومنصور بن المعتمر، وعدد كثير من التابعين(13).

أما تلاميذه فهم كثيرون من محدثين وفقهاء، منهم زُفَر بن الهذيل، وأبو يوسف القاضي، وابنه حماد بن أبي حنيفة، ونوح بن أبي مريم، والحسن بن زياد اللؤلؤي، ومحمد بن الحسن، وأسد ابن القاضي، وغيرهم. وممن أخذ عنه من أقرانه، مغيرة بن مقسم، وزكريا بن أبي زائدة، ومِسْعَر بن كِدَام، وسفيان الثوري، ومالك بن مغول، ويونس بن أبي إسحاق.

وممن بعدهم: زائدة، وشَريك، والحسن بن صالح، وأبو بكر بن عياش، وعيسى بن يونس، وعلي بن مسهر، وحفص بن غِيَاث، وجرير بن عبدالحميد الضَّبِّي، وابن المبارك، ووكيع، وأبو إسحاق الفزاري، ويزيد بن هارون وغيرهم، وهذا يدل على مكانة أبي حنيفة العلمية وتبحره وسعة علمه.

عقيدته:

عقيدة أبي حنيفة - رحمه الله - في أصول الإيمان كغيره من الأئمة الثلاثة - مالك، والشافعي، وأحمد -، وليس بين هؤلاء الأئمة نزاع في أصول الإيمان، فهم متفقون على: الإيمان بصفات الله عز وجل، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الإيمان لابد فيه من تصديق القلب واللسان، وعمل بالجوارح بل كانوا يُنكرون على أهل الكلام من جهمية وغيرهم ممن تأثروا بالفلسفة اليونانية، والمذاهب الكلامية.

يقول شيخ الإسلام: "إن الأئمة المشهورين كلهم يثبتون الصفات لله عز وجل، ويقولون: إن القرآن كلام الله ليس بمخلوق، ويقولون: إن الله يُرى في الآخرة، هذا مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان من أهل البيت وغيرهم، وهذا مذهب الأئمة المتبوعين فقط، مالك بن أنس، والثوري، والليث بن سعد، والأوزاعي، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد.."(14).

رميه بالإرجاء:

أُخِذَ على أبي حنيفة أنه خالف جمهور السلف في مسألة "إخراج الأعمال عن حقيقة الإيمان".

لأنه يرى: أن الإيمان التصديق بالجنان والإقرار باللسان.

ويرى غيره من الأئمة: أنه تصديق القلب، وإقرار اللسان، وعمل الأركان.

ومن هنا عاب عليه بعض العلماء، واتهموه بالإرجاء.

قال ابن عبدالبر: كلُّ من قال من أهل السنة: الإيمان قول وعمل يُنكرون قوله ويُبَدِّعُونه(15).

ولاشك أن هذا القول خِلاف مذهب السلف الصالح، لكنه إرجاء مقيد، لا يصل إلى الإرجاء الخالص المطلق الذي يزعم أصحابه أنه:

لا يضر مع الإيمان معصية.

كما لا ينفع مع الكفر طاعة.

فبرغم موافقته لهؤلاء في عدم إدخال الأعمال في مسمى الإيمان لكنه يختلف معهم اختلافاً جذرياً.

فهم يرون: أنه لا تضر مع الإيمان معصية.

وهو يرى: أن مرتكب الذنب مستحق للعقاب، وأمره إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له.

قال أبو حنيفة في رده هذا المذهب الخطير: ولا نقول: إن المؤمن لا تضره الذنوب، ولا نقول: إنه لايدخل النار... ولا نقول: إن حسناتنا مقبولة، وسيئاتنا مغفورة، كقول المرجئة(16).

قال الدكتور أحمد عطية الغامدي: وأبو حنيفة وإن خالف السلف بتأخيره العمل عن ركنية الإيمان، فإنه لم يدع برأيه هذا أرباب الشهوات لإشباع شهواتهم، وتحقيق رغباتهم باللعب بالمحظورات، وانتهاك أستار الشريعة الإسلامية الغراء، كما فعل المرجئة الذين رفعوا اللَّوم عن العصاة، وفتحوا لهم الطريق إلى هتك محارم الله، دون خشية من عقاب الله تعالى، وهو: أن الإنسان في حِلٍّ ممّا يفعل، فلا تثريب عليه أبداً إذا هو اتصف بالإيمان! الذي هو عبارة عن التصديق عندهم فحسب، وأبو حنيفة حاشاه أن يقول بهذا القول، أو يقف هذا الموقف، فلا يجوز لنا أن نصفه بالإرجاء المطلق(17).

ومع هذا فإن أبا حنيفة لم يختص بهذا المذهب وحده، بل إنه مذهب لبعض أهل العلم ممن اشتغلوا بعلم الحديث وروايته، بل إن منهم من روى له الشيخان في صحيحهما.

قال محمد بن المرتضى اليماني المشهور بابن الوزير:

وفي كتب الرجال نُسب الإرجاء إلى جماعة من رجال البخاري ومسلم وغيرهما من الثقات الرفعاء، منهم: ذر ابن عبدالله الهمداني أبو عمر التابعي، حديثه في كتب الجماعة كلهم، وقال أحمد: هو أول من تكلم بالإرجاء(18).

وقيل: إن أبا حنيفة، رجع عن قوله، ووافق السلف في أن الأعمال من الإيمان، قال ابن أبي العز: والظاهر أن هذه المعارضات لم تثبت عن أبي حنيفة }! وإنما هي من الأصحاب، فإن غالبها ساقطة لا يرتضيها أبو حنيفة(19).

قوله في مسألة (خلق القرآن):

اعتقاد أبي حنيفة في القرآن، هو اعتقاد سائر الأئمة من سلف هذه الأمة، وهو ما دل عليه الكتاب والسنة من أن القرآن منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود.

قال في الفقه الأكبر: والقرآن غير مخلوق(20).

وفي الوصية قال: ونقر بأن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق(21).

ولهذا تتابع أهل العلم على إهمال الروايات المصرحة بأن أبا حنيفة يقول بخلق القرآن، وجزموا بأن مذهب أبي حنيفة عدم القول بخلق القرآن، كالإمام أحمد، وبشر ابن الوليد، والطحاوي، واللالكائي، وابن تيمية، وابن حجر، وغيرهم من العلماء(22).

أبو حنيفة بين التوثيق والتجريح:

أولاً: بالغ بعض الأحناف في توثيق أبي حنيفة، بل تجاوزوا إلى أن قالوا: بأنه فوق التوثيق، وهو ناقد.

ودليلهم صنيع الذهبي في تذكرة الحفاظ، بأن من ترجم لهم في التذكرة يؤخذ قولهم في الجرح والتعديل.

وقالوا: هو من الأئمة في الجرح والتعديل، لأن الفقيه لا بد أن يكون كذا وكذا، وأن له أربعة آلاف شيخ؟

وهذه مبالغة لا يُعَتدّ بها، وفق ميزان الجرح والتعديل.

ثانياً: أقوال المعدِّلين:

اختلف النقاد في الاحتجاج بحديثه على قولين: فمنهم من قبله ورآه حجة. ومنهم من لينه لكثرة غلطه في الحديث(23).

قال ابن معين فيما رواه عنه صالح بن محمد جزره وغيره: أبو حنيفة ثقة. وقال أحمد بن محمد بن القاسم بن محرز عن يحيى بن معين فيه: لا بأس به.

قال أبو داود: رحم الله أبا حنيفة كان إماماً.

قال إسرائيل بن يونس: كان نعم الرجل النعمان، ما كان أحفظه لكل حديث فيه فقه، وأشد فحصه عنه، وأعلمه بما فيه من الفقه، وكان قد ضبط عن حماد فأحسن الضبط عنه(24).

ثالثاً: أقوال المجرِّحين:

قال علي بن المديني: قيل ليحيى القطان: كيف كان حديث أبي حنيفة؟ قال: لم يكن بصاحب حديث.

قال البخاري: ضعيف تركوا حديثه.

قال النسائي: ليس بالقوي في الحديث، وهو كثير الغلط والخطأ على قلة روايته.

قال النَّضر بن شُميل: هو متروك الحديث.

وقال ابن عدي: عامة ما يرويه غلط وتصحيف، وزيادات، وله أحاديث صالحة، وليس من أهل الحديث.

قال الثوري: ليس بثقة.

وقال ابن معين: لا يكتب حديثه. وقال مرة: هو أنبل من أن يكذب..(25)، قلت: وبالجملة فهو إمام بلا مدافعة ولا منازعة ولكن أهل الحديث قد اختلفوا فيه كما تقدم.

وقد ذكره ابن شاهين في كتابه: "ذكر من اختلف العلماء ونقاد الحديث منه (51) ومما قاله فيه: حديثه فيه اضطراب، وكان قليل الرواية، وكان بالرأي أبصر من الحديث، وإنما طعن عليه من طعن من الأئمة في الرأي، وإذا قلّ بصيرة العالم بالسنن، وفتح الرأي تكلم فيه العلماء بالسنن.

مؤلفاته:

لم يكن العصر الذي عاش فيه أبو حنيفة عصر تأليف أو تدوين بالمعنى الذي عرفناه فيما بعد، وكان قد شغل نفسه بالتدريس، حيث توافد عليه الطلاب من شتى الأقطار يسألونه ويقرؤون عليه، ولهذا لم تكن له مؤلفات إلا القليل، بل ذهب بعض المؤرخين إلى أنه لم يثبت له كتاب؟! ومما نسب إليه من مؤلفات ما يلي:

1- الفقه الأكبر، برواية حماد بن أبي حنيفة(26).

2- الفقه الأكبر، برواية أبي مطيع البلخي(27).

3- العالم والمتعلم، برواية أبي مقاتل السمرقندي(28).

4- رسالة الإمام أبي حنيفة إلى عثمان البتي(29).

5- الوصية، برواية أبي يوسف(30).

وهناك مؤلفات نسبت إليه مثل: (المقصود في الصرف)، نسب إلى أبي حنيفة في زمن متأخر كما ذكر فؤاد سزكين(31) وكتاب (الحيل) ذكره الخطيب في تاريخ بغداد(32)، وهناك مؤلفات كثيرة أوردها سزكين إلا أنها لم تشتهر كما اشتهرت الكتب الخمسة السابقة، وقد قام الدكتور محمد الخميِّس بدراستها من خلال رجال إسنادها، وخلص إلى ما يلي: "أن هذه الكتب من ناحية الرواية ووفق منهج المحدثين في النقد لا تثبت للإمام أبي حنيفة"، ومما قال: "ولم أقف على رواية صحيحة أو نسخ معتمدة حتى نقطع أنها للإمام أبي حنيفة، ولاسيما وقد صرح بعض الحنفية كالزَّبِيدي، وأبي الخير الحنفي، بأن هذه الكتب ليست من تأليف الإمام مباشرة بل هي أماليه وأقواله التي قام تلاميذه بجمعها وتأليفها(33).

ولعل من أهم ما يذكر للإمام أبي حنيفة من تأليف كتاب (الآثار) والذي يرويه صاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن، وهو مطبوع بالروايتين، وهو أوثق كتاب في روايات أبي حنيفة.

الحديث عن مسنده:

انشغل أبو حنيفة بطلب العلم، واهتم بعلم الحديث، فسمع الحديث من شيوخ أجلاء، تقدم ذكر بعضهم، وارتحل في سبيل ذلك(34)، ومع ذلك فهو: "مقل في رواية الحديث".

ولعل السبب في ذلك تشدده في الرواية، فهو يقول: لا حجة إلا فيما رواه الراوي من حفظه(35).

واختلف العلماء في نسبة "المسند" إليه، وهل ألفه أبو حنيفة، أو هو رواية أصحابه عنه، تلقوه بالطريقة التي تلقوا بها فقهه.

والراجح: كما ذهب إليه المحققون من المحدثين أنه لا يوجد تصنيف له في الحديث، وإنما هناك مسانيد أُلِّفتَ بعد وفاته ليست من تأليفه، وإنما هي روايات عنه رتبها وبوَّبها من رواها عنه وفي رسالة الدكتور شاكر ذيب فياض عن أبي حنيفة ذكر أن روايات أبي حنيفة في مسند الحَصْفَكي بلغت 600 بإسناده إلى أبي حنيفة وفي مسند الخوارزمي (655).

وخلال دراسته تلك استبعد كتاب جامع المسانيد للخوارزمي لأمور هي:

1- الخوارزمي نفسه لم يجد من وثقه، حتى من ترجم له من الحنفية كالقرشي في الجواهر المضية لم يذكر سوى أنه تفقه على ثلاثه وقدم دمشق.

2- عمله في الجامع يدل على عدم تمكنه في الحديث على عصبية للمذهب لا ينبغي أن يتصف بها.

3- يورد أحاديث موضوعه في الثناء على أبي حنيفة ولا ينتقدها.

4- ثم هو يورد ذكر أصحاب المسانيد، ويصفهم بأعلى درجات التوثيق، والأمر ليس كذلك، بل فيهم المتهم، والكذاب، والضعيف.

5- ويؤكد الخوارزمي أنه جمع جامعه من 15 مسنداً، والواقع لا يؤيده. ولم يجد حديثاً واحداً من رواية ابن عدي، أو أبي يوسف، مع أنه ذكر أنه جمع مسانيدهم، أما من مسند أبي نعيم فأورد حديثين فقط.

6- وقد ذكر الخوارزمي أن بعض الجاهلين نسبه إلى قلة رواية الحديث، وقال: فلحقتني حمية دينية ربانية، وعصبية حنفية نعمانية فأردت أن أجمع من 15 مسنداً.

7- ثم إن بعض أصحاب المسانيد ممن لا يعتمد على روايتهم، ولا يصح الاحتجاج بهم مثل:

أ- عبدالله بن محمد الحارثي البخاري:

له مسند مستقل، قال عنه الذهبي في الميزان نقلاً عن ابن الجوزي: إنه يُتهم بوضع الحديث، وكان يضع الإسناد لهذا المتن والعكس.

وزاد ابن حجر: كان يدلس.

وقال الخطيب: هو صاحب عجائب، ومناكير، وغرائب.

ب - الحسن بن زياد اللؤلؤي:

كذبه الذهبي. وقال الدارقطني: ضعيف متروك. قال أبو حاتم: ليس بثقة ولا مأمون.

ج - عمر بن الحسن الأسناني:

ضعفه الدارقطني والخلال. قال الذهبي: هو صاحب بلايا. قال الحاكم: كان يكذب. وأثنى عليه الخطيب، ووثقه أبو علي الحافظ شيخ الدارقطني والحاكم.

د - الحسين بن محمد بن خسرو:

قال الذهبي: محدث مكثر، أخذ عنه ابن عساكر، وكان معتزلياً.

وقال ابن عسكر: ما كان يعرف شيئاً.

وقال ابن حجر: هو الذي جمع مسند أبي حنيفة، وأتى به بعجائب... ورأيت بخط ذلك الرجل جزءاً من نسخة رواها عنه، والنسخة كلها مكذوبة على الدقيقي فما فوقه.

ه - القاضي أبو بكر الأنصاري:

كان ابن حجر يقول: كان يرى أنه لا سند له، وكان ابن خسرو هو الذي نسب النسخة للأنصاري.

و - طلحة بن محمد الشاهد:

قال الذهبي: كان داعية للاعتزال، وضعفه الزهري، وذكر ابن حجر أنه يجب أن لا يروى عنه.

مسند الحصفكي: هو من رواية الحارثي البخاري المتقدم وترجم له القرشي ولم يذكر توثيقه عند أحد معتمد.

قال ابن حجر: أما مسند أبي حنيفة فليس من جمعه، والموجود من حديث أبي حنيفة مفرداً، إنما هو كتاب الآثار الذي رواها محمد بن الحسن، ويوجد في تصانيف محمد بن الحسن وأبي يوسف قبله من حديث أبي حنيفة أشياء أخرى، وقد اعتنى أبو محمد الحارثي - وكان بعد الثلاثمائة - بحديث أبي حنيفة، فجمعه في مجلد، ورتبه على شيوخ أبي حنيفة، وكذلك خرّج منه المرفوع الحافظ أبو بكر بن المقرئ، وتصنيفه أصغر من تصنيف الحارثي، ونظيره مسند أبي حنيفة للحافظ أبي الحسن بن المظفر، وأما الذي اعتمده أبو زرعة الفضل بن الحسين العراقي الحسيني على تخريج رجاله فهو المسند الذي خرجه الحسن ابن خسرو، وهو متأخر وفي مسند ابن خسرو زيادات عمّا في مسند الحارثي، وابن المقرئ. أ.ه(36).

وقال المعلمي: غالب الجامعين لتلك المسانيد متأخرون، وجماعة منهم متهمون بالكذب، ومن لم يكن منهم متهماً، يَكْثرُ أن يكون في أسانيده إلى أبي حنيفة من لا يعتد بروايته(37).

هل تثبت روايته عن الصحابة:

من حيث روايته عن الصحابة لايثبت منها حديث، وهذا ما ذكره ابن حجر والنووي، وقال الذهبي: ولم يثبت له حرف عن أحد منهم(38).

أما الرؤية ففيها نظر، والذي ثبت أنه رأى أنس بن مالك فقط، وأما الرواية عنه فمحل نظر كذلك، وذلك:

1- أنه لازم شيخه حماد بن أبي سليمان ما يقرب من 20 سنة واشتغل كثيراً بالفقه.

2- بدأ بطلب الحديث ثم انقطع للفقه.

وحتى لو ذكر أنه من التابعين فهذا لا يعني توثيقه بطبيعة الحال.

وهو ليس من التابعين من حيث الرواية، ومما يؤك�


بحث مفصل



المقالات ذات صله